في
فكرة طرحها باسل الأعرج تنادي بعدم أسطرة الشهداء -أي جعلهم أبطال أسطوريين-
مفادها بأن الشهيد لا يختلف عمن حوله وبالتالي يمكن لأي آخر أن يقوم مقامه أي زمان
ومكان. هذا وعقب استشهاده في مطلع العام السابق كنت قد مررت بتغريدة لصاحبه
يقول فيها "اشتقتلك يا صاحبي لنحكي بالتاريخ والنسوان". ما نعرفه عن
حياة باسل أنه كان ناشطًا اهتّم بالتاريخ الفلسطيني وعمل على توثيقه، صاحبه في تلك
التغريدة يخبرنا عن أمر نجهله كما نجهل الكثير؛ أي أنه يذّكرنا بالفكرة التي نادى
بها الشهيد، (باسل الأعرج اللي احترنا شو نعطيه لقب كان بني آدم مثلنا).
(2)
كنت قد مررت مرّة
بفكرة أخرى -ولا يحضرني الآن مصدرها-تذكُر بأن لكل إنسان جوانب حياة مختلفة
بالضرورة وقد سميت بالقوالب، وأن المرء يختار القالب الذي يراه أكثر راحة من غيره
ليظهر به، على سبيل المثال أحدهم في أسرته هو الأخ الأوسط، هذا قالب، يتولى وظيفة
المحاسبة في عمله وهذا قالب آخر وهكذا.. ولكن هل فعلًا سبب اختيار القالب الذي
نوّد الظهور به هو الراحة فحسب؟ لو نظرنا بعمق لمصدر هذه الراحة فسنجدها مرتبطة
بمعنى حياتنا -الذي تحدثنا عنه في المقال السابق- أي أننا نختار القالب الذي
يجعلنا أقرب من المعنى الذي نريده.
(3)
تحدّث مالك بن نبي في
كتابه (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) عن عوالم ثلاثة يراها تحيط بالإنسان؛
عالم الأشياء، عالم الأشخاص وعالم الأفكار، وأوضح كيف أن عملية نموه تشهد انتقاله
بين هذه العوالم بالترتيب، وأن مشكلة الأفكار في مجتمعاتنا تكمن في ربط عالم
الأفكار بعالم الأشخاص، على سبيل المثال أحدهم يعرف برجاحة عقله فإن كل ما سيقوله
بالضرورة صحيح، وعلى العكس آخر يعرف بسذاجة تفكيره فكل ما سيقوله هراء، وهذا ما
نطلق عليه "شخصنة المواضيع"، والذي يؤدي إلى عرقلة نمو الأفكار وابقاءها
دون حيز العمل، مثلما يحصل مع الأحزاب السياسية فبدل من أن تحارب الظلم حاربت
الظالم -أي دخلت عالم الأشخاص-، وبصورة لا شعورية صارت تريد سُلطته بحد ذاتها ، لذلك صبت كل
جهدها لصنع قيمتها الاعتبارية ومحاربة كل من ينافسها عليها من الأحزاب الأخرى، في
حين كان عليها ان تتوحد مع بعضها لتصبه على الظلم لتحقيق العدالة التي كانت سبب
وجودها.
(4)
مواقع التواصل
الاجتماعي أظهرت مشكلة يعاني منها الأغلب وهي جهل بالفصل بين العام والخاص، فتجد
الناس يشاركون كل تفاصيل حياتهم والتي يفترض أن لا تعني أحدًا سواهم. بالمقابل
هناك فئة تشارك قالبًا واحدًا وعادة ما يختص بعالم الأفكار كما أوضحنا آنفًا، ولكن بعضا من هؤلاء قد وقع في مشكلة أخرى وهي
الزيف؛ فصاروا ينكرون القوالب الأخرى التي يعيشونها رغم وجودها فعلًا. لا زلت عند
رأيي الذي يقول بأن مشاركتنا لأغنية تطرح قضية ما مع العامة لا يعني أننا لا نطرب
على أغنية (يلي بتحب النعنع) التي لا نشاركها، لا يعني أننا ملائكة بدون خطايا ولا
يعني أن الحياة مش صعبة أيضًا، الأمر يتعلق بأن الأفكار وحدها تستحق أن تكون عامة،
أما غير ذلك فهو يدخل في عالم الأشخاص والذي يقتضي شيئا من الخصوصية.
(5)
في دراما التاريخ
والسيرة الذاتية العربية غالبًا ما يتم تسليط الضوء على قالب واحد من الشخصية مما
يجعلها أبعد عن المتلقي، في هذا المثال مراعاة خصوصية الحياة لشخصية البطل من قبل
القائمين يساعد المشاهد على أسطرته بدلاً من التأثر به، لا أدري لم لا يُجرَب عرض
القالب العاطفي باتزان مع قالب -الفكرة- الرئيسي مثلًا حتى نشعر ببشريته، وليغفر
البطل عبثنا إن كانت الضرورة تقتضي ذلك!
(6)
أمثلة التطرف في جوانب
الحياة التي أوردناها أعلاه تعيدنا إلى ما قاله النبي محمد "إنني أصوم وأفطر
وأصلي وأرقد وأتزوج النساء" وكأنه كان يعرف أن الإفراط في جانب واحد
وإهمال باقي جوانب الحياة اليومية سيؤول الى أسطرة شخصه، وبالتالي استحالة
الاقتداء به فنهى عن الأمر منذ بدايته.
لكن ما يفعله وعاظ السلاطين من "استحمار" ديني وما يقابله
من غياب الوعي والإرادة لدى الشعوب المسلمة (وبديش أحكي أكثر لأنه مش
موضوعنا)،تأتي هذه العوامل لتتفاعل مع بعضها لتسهم في فعل ما نهى عنه نبي الإسلام،
لا نستطيع أن نكون كأبطالنا فما الحل؟ نجعلهم أبطالا أسطوريين، ندّعي حبهم وخلصنا.
في الفيديو أدناه يتحدث أحمد العمري عن هذا تحت عنوان
"الأجداد من كوكب كريبتون".
فكرة باسل التي ابتدئنا بها المقال دعوة للوعي بحقيقتنا التي فيها ما
يُجهر وما يُخفى، والتي بإدراكها يكون إدراك بداية الطريق.
تعليقات
إرسال تعليق