" إننا لا ندرك ما يجعلنا أحياء إلا بعدما نفقده "
(1)
(1)
عقب انتهاء ثورة 25 يناير التي آلت آنذاك إلى إسقاط النظام؛ استوقفتني كلمات أحد ثوار ميدان التحرير لما قال "خلصت الثورة
وأنا مش عارف دلوقت كيف هرجع أعيش!" كان قد قالها بألم والجميع من حوله
يحتفلون، أحسست بشعوره وقتها وكانت تنقصني القدرة على تحليل الأمر وفهمه عقليًا ولكن كلماته بقيت في ذهني.
(2)
في إحدى محاضرات الساعة الثامنة كانت مُدرسة
المادة تصر على ألا تجعل وقتًا محددًا لأخذ أسماء الحضور ، فمرة تراها تفعل ذلك في
بداية المحاضرة و مرة في آخرها و أحيانًا لا تأخذ أصلًا ، هي تدرك تمامًا أن قائمة
الحضور والغياب هي ما تجعل الطلاب يحضرون ،ولكي تجعلهم يأتون مبكرًا دومًا تلاعبت
مع حافزهم هذا بحكمة حتى تحصل على التزامهم فصاروا في حالة تأهب دائم ، كان ما
قامت به قد أعادني لعمر بن الخطاب لما نقش على خاتمه عبارة "كفى بالموت
واعظًا" ليذكره بالموت دائمًا، ذلك اليوم الموعود هو ما يحثه على الانشغال بصلاح عمله في وقته الراهن، أي أنه ذكره للموت وضعه في حالة تأهب واستعداد كما فعلت المُدرسة مع
طلابها ، كلاهما عرفا كيف يحسنان التعامل مع الدافع.
(3)
في الدراما التي تتناول قصص الحروب والأسرى
والتي تحكي الكثير من واقع معاش، نألف جميعنا صورة الأم التي ذهب ابنها الى الحرب
ولم تعد تعرف عنه شيئا، يخبرها قلبها بأنه لن يعود ولكنها تكابر، تتلهف لترى عائدا
من هناك قد يحمل معه خبراً، وليس هذا من تعلّق الأم بولدها فالأمر أعمق من ذلك، هي
تعيش آملة لتشهد يوم عودته بل إن ذلك هو ما يجعلها تعيش أصلًا، ومن يدري ربما لو
عاد لفقدت قدرتها على الحياة كما حدث مع الثائر الذي تحدثنا عنه بداية! و كما كان
يحدث مع أسرى السجون بعد خروجهم، قليلون هم من توائموا مع ذلك و كثيرون من أقبلوا
على الانتحار والبعض قد رغبوا بالعودة للسجن مجددا، ذلك لا يدعوا الى العجب فأمل
خروجهم منه هو ما كان يدفعهم للحياة، و تصر كلمتا الدافع و الحياة على الالتصاق
ثانية.
(4)
قرأت ذات مرة أن قيس بن الملوح كانت قد أتيحت
له فرص لوصل ليلى لكنه كان يأبى ذلك، المجنون جعل وصلها غاية حياته ودافعه نحوها
فربما لم يتصور كيف سيحيا مجددًا إن فقده، إذن فالأمر مرة أخرى أعمق من قصة حب وما
شابه ذلك، على سيرة الحب أذكر ما قاله غسان كنفاني في رسالته الأخيرة لغادة
السمان بأنه "ينقصه الانتساب الذي يهتف به حين يصحو صباحًا : لك شيء في هذا
العالم فقم" و على غرار ما يتداوله الناس من فهم العبارة بمعزل عن سياقها،
فهو كان يبحث عن الذي يقولها له، أي أنه كان باحثًا عن الدافع أيضًا ،ولكنه ليس
وصل غادة كما كان عند الملوح، فحبه هنا من نوع مختلف، في الرسالة نفسها يذكر أنه
"كان يحاول ردم الهوّة بينه و بين العالم" وكأنه يصف شعوره بالاغتراب و
لحل ذلك جرب العمل والعائلة والكلمة والعنف وكل ذلك لم ينفع على حد قوله، حب غادة
هو الذي أحدث الفرق و كما قلنا إنه حب مختلف وسنتحدث عنه، ذلك النوع الذي يرد
المرء لذاته.
(5)
في كتابه (الهروب من الحرية) تحدث ايريك فروم
عن حال المرء بعدما يستغني عن حاجته وتبعيته لوالديه لينال فرديته واستقلاليته،
وكيف أن هذا التفرد يجعله في عزلة واغتراب و"يجعل الهوّة بينه وبين العالم كبيرة" ، ولا يمكن إعادة التوحد مع
العالم إلا بالحب متبوعًا بالعمل، وكأنه يخبرنا عن نوع آخر من الحب والأبدية؛ ذلك الذي يعيد ربط المرء بالكون بعدما يمنحه الأمان من جديد ومما يضفيه على الحياة من معانٍ ليصير هوالدافع فيها، ويبدو أن هذا مشابه لما حصل مع كنفاني كما سلف
وذكرنا.
(6)
مقابل ذلك، لو نظرنا حولنا من زاوية أخرى سنجد الكثيرين في رحلة البحث عن معنى بدون أن يجدوه، ذاك جعل جمع المال
والجاه غايته، وتلك جعلت من مكايدات الأخريات شغلها الشاغل، وقوالب الشخصيات المشهورة
على مواقع التواصل والتي تسوّق حياتها المترفة بالمثالية والتي ينبغي أن نحذوا
حذوها، كل هذه المقارنات التي لا تنتهي والتي تحمل الأصل المادي المشترك كغاية
بحد ذاته هي سبب في انهيار عالم المعاني السامية وما يليه من الضياع والتيه.
(7)
كيف ستكون الحياة بلا دافع؟ ضياع مستمر وجثث
تأكل وتشرب وتلهوا ثم تنام، فكان لا بد من الارتباط بمعنى، ذلك الذي يجعل صاحبه لا
يحيا الحياة فقط وإنما يشعره بأنه إنسان، يزرع في نفسه تلك القوة التي تقاوم الانكسار، أذكر ما
قالته صديقة مرّة "إن فرصة القتال من أجل شيء ما لا تعوّض" كم يشبه هذا
ما قاله سعد في رائعة كنفاني (أم سعد) "شو يعني أوادم؟ أوادم يعني
بنحارب".
استهللنا المقال بالحديث عن الثورة وها هو ينتهي
بالحديث عن الحب والمقاومة، وكأن هناك التصاقًا أبديًا بين هذه المفردات، كما
التصقت مفردات الدافع والحياة من قبلها، لتخبرنا بأنها أرواح شتّى ولكن في جسد واحد.
الانجراف مع التيار يحيد عن المعنى ، ومع ازدياد النقص في الحقوق الأساسية هدف الناس سيكون السعي وراءها دون النظر إلى المعاني السامية التي قد ترفع من شأن الحياة في نظر الإنسان ، أو من شأن الإنسان في موقعه بالحياة ..
ردحذفأبدعتِ كالعادة 💚