(1)
يقول الله عز و جل في كتابه " من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" سورة الذاريات ، لم تقتصر الآية على النوع البشري ، وإنما في كلمة "شيء" تعبير عن كل ما يدخل في تركيب الكون حولنا من أزواج (الذكر والأنثى) ؛ النهار والليل، السماء والأرض، الشتاء والصيف، إلخ... كل تفصيلة في الطبيعة مكونة من أزواج لا تدرك قيمة أحدها إلا بوجود الآخر، كيف كنا سنعرف سكينة الليل لولا صخب النهار؟ إن تبادل الأدوار بين كل زوج يوّلد انسجاماً و يخلق تناغمًا متفردًا، وإبداعاً يُبصَر بالقلب.
يذكر شكسبير في إحدى سونيتاته:
"لاحظ كيف يكون الوتر الواحد زوجًا عذبًا
للوتر الآخر،
يستهل أحدهما أنغامه
تلو الآخر بالتبادل،
أغنية بلا كلمات،
تبدو لكثرتها أغنية واحدة،
تقول لك في غنائها: إن الوحيد في الحياة لا وجود له .
حين أتامل تصرفات الناس من حولي و ردود افعالهم، أجدها في أكثر الأحيان متشابهة، مكررة، ومحكومة بما يفعل الأغلبية، فمثلًا يجلس الناس جلسة غيبة، فيُدلي كل جالس بدلوه، قلّما تجد أحد ينسحب من هذه الجلسة، أو على الأقل يكتفي بالصمت ولا يشاركهم الحديث، في هذا المثال يغيب السلوك الحُر عن صاحبه، فيتلوّن بمحيطه دون أن يكون بحضور مستقل، يذكر بيجوفيتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب " بأن عظمة الإنسان ليست اساسًا في أعماله الخيّرة وإنّما في قدرته على الاختيار" لذلك فإنّ اختيار السائد والرائج من الأفعال أمرٌ يدعو للملل، فلا بد من "كسر الايقاع للضرورة الايقاعية" كما يقول درويش حتى تتزن أفعال البشر كاتزان الطبيعة، ومن ثم تنسجم معها .
(3)
ذات مرة كنت أعبر الشارع شاردة الذهن، اقتربت منّي مركبة على أقل من متر، فتجمدتُ مكاني ببلاهة وتجمّد عقلي عن إصدار أي رد فعل على الموقف! وبلطف من الله توقفتْ المركبة قبل أن تصدمني، وقتها توقعت من السائق أن يخرج رأسه من النافذة و يشتم أو يصرخ، لكنه لم يفعل! أوقف مركبته وتوقفت نتيجة ذلك المركبات من خلفه، وأشار بيده إلى الصفة الأخرى من الطريق، كناية عن دعوتي للعبور مع ابتسامة عريضة وصادقة. اندهشتُ من تصرفه، ابتسمت بصوتٍ عالٍ، و دعوت له أيضًا.
كان بإمكان صديقنا سائق المركبة أن يصرخ او يشتم كما يفعل الأغلبية في بلدي، ولكنه اختار ألّا يفعل مثلهم، بل اختار الفضيلة أيضًا. وهو بفعله هذا ، أزاح عنّي شيئًا من الاعتياد وأعاد الاتزان لأفعال البشر من حولي، بينما يصرخ ساىقو المركبات على من يقطعون الشارع، قابلتُ أحدًا لم يفعلها، وبهذا اجتمع بنظري زوجٌ من المتناقضات، ومُنحَتْ الحياة لونها من جديد.
(4)
بحسب فلسفة الين-يانع
الصينية، تمثل الدائرة القوة الخاصة التي تسيطر على الحياة، وتعبّر عن الثنائية في
النظام الكوني، فلا وجود لين إلّا بوجود يانغ، والعكس صحيح.
تذكر الفلسفة أيضًا بأن "كل ما هو موجود عرضة للتغيرات والحركة المستمرة وهذا ما يمثل الاختلاف بين الأشياء. لا يمكن الوصول للدورة الكونية المتكاملة بدون ين-يانغ، و ذلك عن طريق ايقاع الحياة المتناوب، وبهذا التناوب بين يانغ وهي الطاقة الذكورية، و ين وهي الطاقة الأنثوية.
(5)
الطاقة الذكورية في الإنسان هي طاقة العطاء، العمل، الإنجاز والحماية والتخطيط، أمّا الطاقة الأنثوية فهي طاقة الأخذ، الكينونة، الإلهام والإبداع والرعاية. لا يمكن للإنسان أن يبلغ الاتزان بدون الطاقتين معًا.
مثلًا، عندما نذهب للعمل فنحتاج الطاقة الذكورية لإتمام المهام، وحين نعود للبيت فنحن بحاجة الراحة والسكينة فترتفع الطاقة الأنثوية من جديد. بهذا التناوب والتكامل تعمل الطاقتان، وإنّ سيطرة اي منها على حساب الأخرى يؤدي إلى اعتلال واضطرابات في جسد الإنسان ونفسيته.
نهايةً، نجد أن الكون في كل مجمل تفاصيله من الأزواج المثاني والمتناقضات، تكمل بعضها بالتناوب، وتمنح الوجود لونًا من لونين وصوتًا من صوتين، لتقول لنا : "إن الوحيد في الحياة لا وجود له"
تعليقات
إرسال تعليق