التخطي إلى المحتوى الرئيسي

كلام الناس: السُلطة غير المرئية


   
(1)

     يقصد بالسُلطة هي تلك القدرة التي يمنحها الناس لجماعة منهم ليتولوا أمرهم ويقضوا بينهم، فجوهر السُلطة هو توّلي أمور الناس وقضاء حوائجهم، أمّا مظهرها فهو جماعة يرجع إليها الأمر والفصل. لكن في حال انحراف هذه الجماعة وغياب الرقابة عنها يغيب الجوهر ويبقى المظهر، فتصبح القدرة وسيلة بيدها، ترعى أهوائها وتخدم مصالحها الشخصية.
     حين أشاهد الناس يتملّقون مسؤولًا ما أتعجّب من سلوكهم، فنحن نقول "مسؤول ؛ أي أن معيار التقدير له  ينبغي أن يكون على قدر تحمّله للمسؤولية المنوطة به، وأتذّكر قول زياد رحباني في أغنيته:

كل المصاري اللي مضبوبة، اللي ما بتنعد ولا بتنقاس، أصلها من جياب الناس مسحوبة، ولازم ترجع لجياب الناس

في هذا المثال انحلّ جوهر السلطة مع بقاء شكلها الخارجي، الشكل الذي يتملّقه الناس، المنصب الذي يحلمونه، إن لم يتغيّر هذا التصوّر الخاطئ عن ماهية السلطة لدى الناس ويستبدل بخير منه، فلا تغيير يُرجى منها، إلّا اللهم تغيير الأسماء التي تجيء وتذهب.

  "هي دي هي الأصلية" كما يكمل رحباني ..



 (2)

        تتنوّع السلطات وتختلف أشكالها، فمنها السلطة الأبوّية وهي التي يمنحها الأبناء لآبائهم، ومنها الدينية، السياسية والسلطة الإجتماعية وهي موضوع حديثنا، وأقصد بها السلطة التي يمنحها المجتمع لأفراده، بمرجعية مستمدّة من القيم السائدة والعادات والتقاليد المتوارثة فيه، فيكون رأي المجتمع -أو الرأي العام- أداة هدم وبناء، تحفظ له خصوصيته الثقافية وهوّيته الإنسانية.
ولكّن إن بُني هذا الرأي على قيَم باطلة ومعايير فاسدة، صار أداة تهدم  كيان أفراد المجتمع وترعى ضياعهم. وأضرب مثالًا على هذا تشييء الفرد في مجتمعنا وامتهان كرامته الإنسانية، فيعامل الرجل بما يملك من مال، وتعامل االمرأة بما تملك من جسد، رأي المجتمع هنا لا يتعدّى كونه "كلام الناس لا بقدّم ولا بأخّر" كما يقول جورج وسوف، وينبغي أن لا يُأخذ على محمل الجّد مطلقًا.


        الأمر الذي يجعل السلطة الاجتماعية في غاية الخطورة هو أنها تُضحي كالنظارة، تنسى أنك تضعها ولكنك ترى من خلالها، فلو سألنا أحدهم لماذا تشتري سيارة مع أنك لا تقدر على مصروفها، لأجابنا بأن هذه رغبته، والحقيقة أنها رغبة المجتمع، فتصرّف بناءً عليها بصورة لا شعورية.  المصيبة الأكبر تحدث حين ينظر الفرد حتى لنفسه بواسطتها -أي بواسطة هذه السلطة -، ففي مثال التشييء أعلاه، حين تعامل المرأة بما تملك من جسد، تنظر لنفسها على أنها جسد وفقط، كم يزِن، كيف يبدو، الملابس والمكياج اللذان يغطيانه، ولو سألنا إحداهنّ عن سبب رغبتها في إنقاص وزن جسدها، رغم أن وزنه الحالي ملائم، فستجيبنا ليبدو أجمل، وحقيقة الأمر أنها تخجل منه لأنه لم يصل "الوزن المثالي" الذي وضعه المجتمع. في هذه الحالات تشكّل هذه السلطة ضغطًا كبيرًا على الفرد، مما يجعله يضطر لمجاراتها والخضوع لها ليتحرر من العبء، أو في أحسن الأحوال أن يبذل جهدًا لمقاومتها إن كان على وعيٍ بها.






 (3)

         في ظل انحراف السلطة الاجتماعية في المثال آنف الذكر تتفشّى عبادة المظاهر، فيصير المهم كيف يظهر المرء أمام الناس ليرضوا عنه فيرضى بذلك عن نفسه! أما "اللي بيتربّى على العز ما بيتباهى بماله" فتذهب مع الريح، ولكن أغنية ميادة بسيليس تأتي لتُخلّد هذه القيمة النبيلة،
عزّك من حقك رح يرجع لو مهما طال غياب، مهما الذل يزيد ويقوى الخير بيبقى برجاله
تتابع الأغنية...
     هذا ناهيك عن قلّة المال لدى غالبية الأفراد أصلًا، فيلجئون للاقتراض من البنوك كحل تخديريّ يُجاري رغبة المجتمع، وبدلًا من توجّه رأيه نحو محاكمة أسباب هذا الفقر ومحاسبة المتسببين، فإنه يتوجّه نحوه أفراده المظلومين -والظالمين أنفسهم أحيانًا-، ليغدو عبئًا إضافيًا عليهم، يطالبهم بما لا يتحملون، ويكلفّهم ما لا يستطيعون، وتبدأ معه مسرحيات لا تنتهي من التمثيل والإدّعاء لمظاهر كذّابة و زائفة يؤدّيها الأفراد أمام بعضهم البعض.


 (4)

      كإحدى الدول النامية فإن مشاكلنا الرئيسية هي الاستبداد، الفقر، التخلف، الجهل، المرض، البطالة، إلخ... ولكن مع ما نشهده اليوم من عولمة و زوال الحدود، تنتقل مشاكل الدول المتقدمة إلينا لتضاف إلى مشكلاتنا (وكأنه اللي فينا مش كافينا!)، ولكنها تأتي منفصلة عن سياقها الاجتماعي والتاريخي الذي نشأت فيه، وعلى رأسها الاستهلاك التفاخري (ظاهرة أنا أشتري إذن أنا موجود)، ففي وضعنا الحاليّ أي استهلاك نتحدث عنه (وهو فش مصاري أصًلا!)، أيّ كماليات والحاجات الأساسية غير مقضيّة!
المجاراة والادّعاء الكاذب تطرح نفسها هنا كآليات دفاعية وحلول تخديرية، والاقتراض -مرة أخرى- يعود كحلّ وضعه من خلق المشكلة أساسًا، يؤسس الشركات والماركات العابرة للقارات، يخلق الرغبات ثم ينتج السلع، وبهذا تظل الدولة النامية سوقًا مستهلكة لبضاعة دول العالم المتقدم المنتجة، ويعّد هذا شكلًا من أشكال الاستعمار الثقافي الأخطر على الإطلاق، يحضرني هنا  قول درويش: "يا لهاويتنا كم هي واسعة"

نشتري أشياء لا نحتاجها، من أموال لا نملكها ، لنبهر أناسًا لا يعجبوننا


(5)

     نصل إلى أن السلطة الاجتماعية لها تأثير عميق لا يستهان به، والجهة التي تجيد التعامل معها وتوجهها ستصل إلى مبتغاها على الأرجح، ثم إن وعي المجتمع بها سيمنحه إيمانًا بنفسه، إيمانٌ يُعوّل عليه عند الحاجة إليهولكن إن حدث أي تهاون في التعاطي معها فسيجعلها قوة تخريبية موجهّة نحو المجتمع نفسه.

في الفيديو أدناه لوحة من لوحات مسلسل مرايا بعنوان "نبع البلسم"، تطرح كيف أن الناس حاربوا حامل الحقيقة، لأن السلطات الأخرى عرفت كيف تدير رأي المجتمع لصالحها، وجعلت منه غافلًا عن مصلحته بل و معادٍ لها أيضًا...



تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بين الأبيض والأسود ، ألوان..

  (1)        يقول الله عز و جل في كتابه " من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" سورة الذاريات ، لم تقتصر الآية على النوع البشري ، وإنما في كلمة "شيء" تعبير عن كل ما يدخل في تركيب الكون حولنا من أزواج (الذكر والأنثى) ؛ النهار والليل، السماء والأرض، الشتاء والصيف، إلخ ...  كل تفصيلة في الطبيعة مكونة من أزواج لا تدرك قيمة أحدها إلا بوجود الآخر، كيف كنا سنعرف سكينة الليل لولا صخب النهار؟  إن تبادل الأدوار بين كل زوج يوّلد انسجاماً و يخلق تناغمًا متفردًا، وإبداعاً يُبصَر بالقلب .  يذكر شكسبير في إحدى سونيتاته : " لاحظ كيف يكون الوتر الواحد زوجًا عذبًا للوتر الآخر، يستهل أحدهما أنغامه تلو الآخر بالتبادل، أغنية بلا كلمات، تبدو لكثرتها أغنية واحدة، تقول لك في غنائها: إن الوحيد في الحياة لا وجود له . (2)       حين أتامل تصرفات الناس من حولي و ردود افعالهم، أجدها في أكثر الأحيان متشابهة، مكررة، ومحكومة بما يفعل الأغلبية، فمثلًا يجلس الناس جلسة غيبة، فيُدلي كل جالس بدلوه، قلّما تجد أحد ينسحب من هذه الجلسة، أو على الأقل يكتفي بالصمت ...

عن تجارة القضايا ..

         فرق كبير بين أن ( تغنّي قضية ) و أن ( تغنّي للقضية ) فالقضية في الأولى مفعول به لفعل أنت فاعله ، بينما الزيادة في الثانية بإضافة حرف الجر (اللام) أفادت التعليل لتصبح القضية اسماً مجروراً ، القضية مجرورة و بالضبط  هذا ما يحصل  .          للتوضيح أذكر على سبيل المثال كاركتير ناجي العلي الذي يظهر فيه ذو المؤخرة السمينة -الذي اعتدناه رمز القيادات العربية في رسوماته- و هو يكتب بخط معوّج على جدار مسطّر "من رأى منكم اعوجاجاً مني بدي ألعن اللي خلّفه" ، بالمقابل أذكر رسماً لقبة الصخرة و قد زيّنتها الألوان الباهرة و الخطوط المتقنة ، وأتساءل لو نزعنا فلسطينية ناجي العلي من رسمه  ماذا سيتبّقى ؟ الحقيقة القائلة بأن الأنظمة العربية قائمة على استبداد شعوبها. بينما لو نزعنا فلسطينية اللوحة الثانية ماذا بقي ؟ مجرد خطوط و ألوان - طبعًا أقدّر القيمة الفنية وما إلى ذلك و لكنني أتحدث في هذا المقام عن القيمة الأخلاقية-  و هنا يكمن الفرق ؛ الأول عبّر عن قضيته بريشته و واجهه فيها ذوي المؤخرات السمينة الحقيقي...