فرق كبير بين أن (تغنّي قضية) و أن (تغنّي
للقضية) فالقضية في الأولى مفعول به لفعل أنت فاعله ، بينما الزيادة في الثانية بإضافة
حرف الجر (اللام) أفادت التعليل لتصبح القضية اسماً مجروراً ، القضية مجرورة و بالضبط هذا ما يحصل .
للتوضيح أذكر على سبيل المثال كاركتير ناجي العلي الذي يظهر فيه ذو المؤخرة
السمينة -الذي اعتدناه رمز القيادات العربية في رسوماته- و هو يكتب بخط معوّج على
جدار مسطّر "من رأى منكم اعوجاجاً مني بدي ألعن اللي خلّفه" ، بالمقابل
أذكر رسماً لقبة الصخرة و قد زيّنتها الألوان الباهرة و الخطوط المتقنة ، وأتساءل
لو نزعنا فلسطينية ناجي العلي من رسمه ماذا سيتبّقى ؟ الحقيقة القائلة بأن الأنظمة العربية قائمة على استبداد شعوبها. بينما لو نزعنا فلسطينية
اللوحة الثانية ماذا بقي ؟ مجرد خطوط و ألوان -طبعًا أقدّر القيمة الفنية وما إلى ذلك و لكنني أتحدث في هذا المقام عن القيمة الأخلاقية- و هنا يكمن الفرق ؛ الأول عبّر عن قضيته
بريشته و واجهه فيها ذوي المؤخرات السمينة الحقيقيين بشجاعة و كانت ريشته سبب
اغتياله لاحقاً ، بينما الثاني عبّر عن مهارته بقضيته و كانت سبب شهرته فيما بعد.
أن يكون المرء صاحب قضية يعني أن يحمل فكرة و قد اتخذ مسبقاً قرار التضحية
في سبيلها مهما كلّفه ذلك من خسارة ، أن يكون ناصراً للحق و باحثاً عن الحقيقة يعني أنه سيقف قبالة الظلم و الكذب ، إذن قد وضع نفسه في مواجهات مستمرة نظرًا لانتشارالأخيرين على كل صعيد و في كل جانب ، وأركّز هنا على التضحية التي دائماً ما تكون قرينة القضايا ، حتى أن البشر لا يقنعون تماماً بصدق النوايا حتى يشاهدوا تضحيات فإن حدثت صاروا بعدها أبطالهم ، و نظراً للمنزلة الرفيعة المكنونة لهؤلاء تأتي الشخصيات الانتهازية هنا بدورها باحثة عن المصالح الأنانية من مال و شهرة و حب و سلطة لتستغل ذلك فتسهّل على
نفسها عناء الطريق ، و السؤال الذي يطرح نفسه لمَ لا يُظهرون حقيقتهم دون اللجوء إلى التمثيل والاستغلال ؟ أجيب بأن استثارة العواطف هي أقصر طريق للقلوب جميعها ، تخيّل أن أحدهم
يغنّي للماء مثلاً (و لهسا محدّش عطشان الحمد لله) لا أحد سيسمعه بالتأكيد ، بينما
لو غنّى للخبز سيسمعه حتماً كل الجائعين ، تخيّلت معي كم هو كبير عددهم ! و على
سيرة الخبز أذكر مقطعًا في أغنية يقول "حب البلد بعيش لما يموت الجوع" تخيّل
معي مرة أخرى شجاعة صاحبها وهو في مواجهة أصحاب المؤخرات تلك ، هل يشبه من يغني
للخبز و قد أقحمه في إطار عاطفي مؤثرلإعطاء موضة جديدة لأغنيته ؟ قطعًا لا يستويان.
x
x
أن تمتلك موهبة فأنت حر في كيفية استغلالها و هو شأن لا يعنينا بالتأكيد
، و لكن أن تسوّق نفسك على أنك صاحب قضية و أنت لا تحمل منها سوى اسمها (فما لقيتش
كلمة توصف هالانحطاط صراحة !) وعلى ذكر الانحطاط يقول بيجوفيتش "كل هزيمة في
العالم بدأت بانهيار أخلاقي" ، لتوضيح المقصود بذلك سياقًا يقول كاتب سيناريو مسلسل قيامة أرطغرل - خطاباته فلسفية تُدّرس هذا الرجل - على لسان بطله " قلبي و قلب محاربي لا يمكنه أن يحمل حب أمرين ، كما يكون تفكيرنا يكون ذكرنا و كما تكون غايتنا يكون طريقنا" ، الآن باتت الصورة أوضح ؛ الانتهازيون سيكونون في صّف السلطة حين تسنح لهم الفرصة ، بينما الحقيقيون -كالواردة أسماؤهم أعلاه- سيكونون في موضع عداوة و مجابهة من قبلها ؛ أي أن القضايا الحقيقية تقتضي نهاية الأمر الاشتباك مع السلطات.
متألقة كالعادة ، العنوان في مكانه :")
ردحذف