التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ملناش دخل بالسياسة - قصة قصيرة


      بمناوشات يومية واحتجاجات متواصلة هنا وهناك كان رجب يقضي حياته، هذا الشاب كان من أولئك الذين لم تستطع الحياة ترويضهم، يأبى أن يسلبه أحد حقه في الرفض والذي كان حيلته الوحيدة، "رجب اللي مش عاجبه العجب" هكذا يسميه أصحابه، أولئك الذين رغم كثرتهم كان يشعر بالوحدة معهم و الوحدة صاحبه أينما ذهب.

     بعد كل شجار اعتيادي وتهديد بالإقالة من قبل مدير الشركة، كان يذهب لمكتبه وفي داخله بركان من الغضب، ليس من مديره لا، بل من الاوغاد الخانعين، ينظر باشمئزاز نحوهم ويخيل إليه أنهم نسخ من (بو)، تلك اللعبة التي كان يلعبها في محاضرات  يراها لغواً، بو الذي لا تعرف أهو حبة بطاطا ام عجينة سمراء تلاعبه وتطعمه وتفعل به ما يحلو لك دون أن ينطق.
في أحد الأيام رأى أن الحواجز بين وبين زملائه تكبر، فهم يرونه الشيطان الرجيم وهو يراهم (بو) المسكين، رغب بتقليصها فلمع برأسه القرار الأخير الذي قضى برفع الأسعار ولكنه لم يرغب بالسؤال عن آرائهم فهو يحفظ  هذا الغثاء عن ظهر قلب من  راديو حافلة الصباح، فسأل عن ردّات فعلهم ازاءه، يسألهم عن أمر هو الأكثر دراية به ولكن هكذا اقتضت الحاجة.

     ساد الصمت حينا و بدت أعينهم تحملق للأسفل، وكأنهم قد بدؤوا يتذكرون أمورا يخجلون من الحديث عنها. كان الأول شاباً يسترجع كيف أنه فكر وقلق كثيرا وخشي عدم استطاعته تدبر أمور زواجه الذي يأمله، ثم أنهى القصة بتناول زجاجة خمر على قارعة طريق مهجور.
الثاني كان أربعينياً يعاني من أزمة منتصف العمر، تذكر كيف انه صرخ بزوجته كثيرا وهددها بالزواج من ثانية، ثم فتح حسابه في الفيسبوك ليبعث لفتاة لا يعرفها رسالة تقول "مرحبا ! ممكن نتعرف".
اما الثالث فكان فتاة لها أخ كالأول و أب كالثاني، تذكرت كيف أنها لم تهتم للامر و لكنها عانت من الظروف التي تعيشها أسرتها و كعادتها بدأت تأكل بلا جوع علها تسد ما يفوتها وتُسكت قلقها.

     نظر رجب في صمتهم و حدث نفسه  قائلا: نسخ بو أولئك بارعون في الهروب من كل ما يعترضهم عوضا عن مواجهته ، اما التعويض عما يفقدونه في كل يوم  فيكون في الخمر، العلاقات العابرة والطعام بلا موعد! وتساءل هل قول وكلمة (بدّيش) تحتاج كل هذا العناء! ثم  كف عن التفكير وبدا و كأنه ينتظر ردودهم.
بعد ذلك رفعوا رؤوسهم و أوشحوا بنظرهم عن رجب و كأنه فرد من جهاز المخابرات و قالوا جميعاً بصوت هافت : ملناش دخل بالسياسة ..








تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلام الناس: السُلطة غير المرئية

    (1)      يقصد بالسُلطة هي تلك القدرة التي يمنحها الناس لجماعة منهم ليتولوا أمرهم ويقضوا بينهم، فجوهر السُلطة هو توّلي أمور الناس وقضاء حوائجهم ، أمّا مظهرها فهو جماعة يرجع إليها الأمر والفصل. لكن في حال انحراف هذه الجماعة وغياب الرقابة عنها يغيب الجوهر ويبقى المظهر، فتصبح القدرة وسيلة بيدها، ترعى أهوائها وتخدم مصالحها الشخصية.      حين أشاهد الناس يتملّقون مسؤولًا ما أتعجّب من سلوكهم، فنحن نقول "مسؤول ؛ أي أن معيار التقدير له   ينبغي أن يكون على قدر تحمّله للمسؤولية المنوطة به، وأتذّكر قول زياد رحباني في أغنيته: كل المصاري اللي مضبوبة، اللي ما بتنعد ولا بتنقاس،  أصلها من جياب الناس مسحوبة، ولازم ترجع لجياب الناس في هذا المثال انحلّ جوهر السلطة مع بقاء شكلها الخارجي، الشكل الذي يتملّقه الناس، المنصب الذي يحلمونه، إن لم يتغيّر هذا التصوّر الخاطئ عن ماهية السلطة لدى الناس ويستبدل بخير منه، فلا تغيير يُرجى منها، إلّا اللهم تغيير الأسماء التي تجيء وتذهب.   "هي دي هي الأصلية" كما يكمل رحباني .. ...

بين الأبيض والأسود ، ألوان..

  (1)        يقول الله عز و جل في كتابه " من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" سورة الذاريات ، لم تقتصر الآية على النوع البشري ، وإنما في كلمة "شيء" تعبير عن كل ما يدخل في تركيب الكون حولنا من أزواج (الذكر والأنثى) ؛ النهار والليل، السماء والأرض، الشتاء والصيف، إلخ ...  كل تفصيلة في الطبيعة مكونة من أزواج لا تدرك قيمة أحدها إلا بوجود الآخر، كيف كنا سنعرف سكينة الليل لولا صخب النهار؟  إن تبادل الأدوار بين كل زوج يوّلد انسجاماً و يخلق تناغمًا متفردًا، وإبداعاً يُبصَر بالقلب .  يذكر شكسبير في إحدى سونيتاته : " لاحظ كيف يكون الوتر الواحد زوجًا عذبًا للوتر الآخر، يستهل أحدهما أنغامه تلو الآخر بالتبادل، أغنية بلا كلمات، تبدو لكثرتها أغنية واحدة، تقول لك في غنائها: إن الوحيد في الحياة لا وجود له . (2)       حين أتامل تصرفات الناس من حولي و ردود افعالهم، أجدها في أكثر الأحيان متشابهة، مكررة، ومحكومة بما يفعل الأغلبية، فمثلًا يجلس الناس جلسة غيبة، فيُدلي كل جالس بدلوه، قلّما تجد أحد ينسحب من هذه الجلسة، أو على الأقل يكتفي بالصمت ...

عن تجارة القضايا ..

         فرق كبير بين أن ( تغنّي قضية ) و أن ( تغنّي للقضية ) فالقضية في الأولى مفعول به لفعل أنت فاعله ، بينما الزيادة في الثانية بإضافة حرف الجر (اللام) أفادت التعليل لتصبح القضية اسماً مجروراً ، القضية مجرورة و بالضبط  هذا ما يحصل  .          للتوضيح أذكر على سبيل المثال كاركتير ناجي العلي الذي يظهر فيه ذو المؤخرة السمينة -الذي اعتدناه رمز القيادات العربية في رسوماته- و هو يكتب بخط معوّج على جدار مسطّر "من رأى منكم اعوجاجاً مني بدي ألعن اللي خلّفه" ، بالمقابل أذكر رسماً لقبة الصخرة و قد زيّنتها الألوان الباهرة و الخطوط المتقنة ، وأتساءل لو نزعنا فلسطينية ناجي العلي من رسمه  ماذا سيتبّقى ؟ الحقيقة القائلة بأن الأنظمة العربية قائمة على استبداد شعوبها. بينما لو نزعنا فلسطينية اللوحة الثانية ماذا بقي ؟ مجرد خطوط و ألوان - طبعًا أقدّر القيمة الفنية وما إلى ذلك و لكنني أتحدث في هذا المقام عن القيمة الأخلاقية-  و هنا يكمن الفرق ؛ الأول عبّر عن قضيته بريشته و واجهه فيها ذوي المؤخرات السمينة الحقيقي...