التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مخلّفات الزواج !


     حين أصادف شخصًا يعاني من اضطراب ما في شخصيته أو مشكلة ظاهرة في تكوينه فإنني سرعان ما أعزو سبب ذلك الى وجود خلل  بالضرورة في بيئته الأولى اي  اسرته.
على سبيل المثال ، حين أشاهد شابّا  لرفاقه النصيب الأكبر من وقته افهم مباشرة بأن دور  الاب و الأخ في الأسرة لا  يُؤدّى كما يجب و إلّا لما احتاج وجودا لرفقة خارجية تشغل وقته الى هذا الحد . أيضًا  حين ألحظ فتاة تُغالي من رفع شأن صديقاتها في حياتها فيتبادر الى ذهني الفعالية الغائبة للأم و الأخت في الاسرة هذه. اضف على هذا حين تفقد الفتاة الاهتمام من أبيها و أخيها فستبحث عن مصدر اخر له خارج اسرتها  ، و الفتى الذي لا يلقَ اهتماما من أمه و  أخته سيبحث عن تعويض خارجي لذلك من الجنس الاخر ، ولعل ذلك احد أسباب كثرة العلاقات المبكرة و غير الناضجة بين الجنسين ، ليأتي المجتمع بعد ذلك و ينعت هؤلاء (بقلة الحيا) .

        
         إضافة إلى ما تقدّم  فأنا لا أنكر الاحتياج العاطفي و السلوك الفطري للارتباط كدوافع طبيعية و سليمة لإنشاء العلاقات  و لكنّي في هذا المقام أتحدث عن تعويض الاهتمام المفقود كدافع لإنشاء مثل هذه العلاقات والتي غالبا ما تأتي في وقت مبكّر من العمر   .
وتجدر الإشارة هنا بأن التعميم لا يصّح ، فربما ذلك الشاب يجد مع رفاقه هروبا من مشكلاته ، وتلك الفتاة تجد رفقة صديقاتها كتمًا لصوت الفراغ في داخلها ، أي أن الصورة الخارجية قد تتشابه و لكن الدوافع تختلف ، وحديثنا هنا عن الدوافع-وهي البحث عن الاهتمام- المذكورة آنفا و التي تظهر كاضطراب عام في الشخصية نظرا لتزايد عمقها مع مرور الوقت .


      بالعودة الى الاسرة في مجتمعنا  يقتصر دور الاب على تأمين الاحتياجات المادية ، اما الام فعلى تدبير أمور المنزل المختلفة ، فنجد أن  الأبناء قلّما تسنح لهم فرصة الحديث مع والديهم ليحكوا لهم قصص يومهم و يشكوا لهم أحزانهم و يشاركونهم افراحهم الصغيرة ، فيظن الوالدان ان الاهتمام يقتصر على مصروف قبل الدوام و وجبة طعام بعده ، ويُغفلون حاجة المرء لأذن تصغي له و قلب يواسيه و يدا تربت على كتفه و أخرى تُنهضه من سقوطه ، جرّب ان تجلس مع أحدهم و قم بدور المستمع فقط و انظر كيف سيحكي لك الكثير و الكثير ان وجدك مهتما بصدق لما يقوله ، بالتأكيد لو وجد من يصغي له و يفهمه في بيته  لما احتاجك !  جرّب أيضا  تكرار ملاعبة الاطفال  و شاهد تعلّقهم الشديد بك ، ستجد ان اباءهم يتركونهم مع الأجهزة اللوحية   بمفردهم و يحسبون ذلك عناية ! من الأمثلة المشابهة لذلك مشاركة الكثيرين أخبارهم اليومية على مواقع التواصل الاجتماعي ، لو وجدوا من يشاركهم تفاصيلها هل سيضطرون لمشاركتها مع العامة ؟ و لعل هذا يقف وراء ظاهرة الكتابة على الجدران بالكثرة التي نشاهدها ، لا أنسى عبارة تكرر معناها على أكثر من جدار تقول " لو وجدنا من يسمعنا لتركنا الجدران ! ".



       لنعد مجددا الى الاسرة ، هل يفكّر الآباء بحجم هذه المسؤولية ؟ هل هدف الانجاب هو انتاج افراد بشخصيات متزنة فاعلة ام يتلّخص فقط بكونه عملية بيولوجية ؟ هل يوضع الأطفال المستقبليين و شتّى امورهم ضمن معيار اختيار الشريك المناسب أم  أن معايير المجتمع المسبقة الصنع أوْلى ؟  هل من أهداف الزواج حفظ النسل قلبا و قالبا  أم يقتصر على  الاستقرار العاطفي و اشباع الرغبات الجنسية ؟

         طبعا لا نختلف بأن لكلٍ حق الحرية في اختيار شريكه و لكن دعونا لا نغفل بأن الحق هذا يتوقف حين يتصادم مع حقوق الاخرين ، هؤلاء الاخرين هم أطفال الغد و شباب ما بعد الغد ، لهم حقهم بالرعاية و العطف التربية ؛ فيتوّجب علينا حين نفكّر في حقوقنا الّا نغفل حقوقهم والتي مراعاتها واجب لا منّة و فضل،والتقصير في ذلك سيؤدي الى قصورهم و سيكون سببا لويلاتهم وعلّاتهم.

        لو بوسعي أن أقول لكل المقبلين على الزواج "فكّروا بأطفالكم" ، و  لكل الآباء " استمعوا لأولادكم " ، ولكل الأبناء " بوحوا لأخوتكم بما في خواطركم "
و لأن ليس بوسعي فعل ذلك فها أنا أكتب هذه السطور ...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلام الناس: السُلطة غير المرئية

    (1)      يقصد بالسُلطة هي تلك القدرة التي يمنحها الناس لجماعة منهم ليتولوا أمرهم ويقضوا بينهم، فجوهر السُلطة هو توّلي أمور الناس وقضاء حوائجهم ، أمّا مظهرها فهو جماعة يرجع إليها الأمر والفصل. لكن في حال انحراف هذه الجماعة وغياب الرقابة عنها يغيب الجوهر ويبقى المظهر، فتصبح القدرة وسيلة بيدها، ترعى أهوائها وتخدم مصالحها الشخصية.      حين أشاهد الناس يتملّقون مسؤولًا ما أتعجّب من سلوكهم، فنحن نقول "مسؤول ؛ أي أن معيار التقدير له   ينبغي أن يكون على قدر تحمّله للمسؤولية المنوطة به، وأتذّكر قول زياد رحباني في أغنيته: كل المصاري اللي مضبوبة، اللي ما بتنعد ولا بتنقاس،  أصلها من جياب الناس مسحوبة، ولازم ترجع لجياب الناس في هذا المثال انحلّ جوهر السلطة مع بقاء شكلها الخارجي، الشكل الذي يتملّقه الناس، المنصب الذي يحلمونه، إن لم يتغيّر هذا التصوّر الخاطئ عن ماهية السلطة لدى الناس ويستبدل بخير منه، فلا تغيير يُرجى منها، إلّا اللهم تغيير الأسماء التي تجيء وتذهب.   "هي دي هي الأصلية" كما يكمل رحباني .. ...

بين الأبيض والأسود ، ألوان..

  (1)        يقول الله عز و جل في كتابه " من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" سورة الذاريات ، لم تقتصر الآية على النوع البشري ، وإنما في كلمة "شيء" تعبير عن كل ما يدخل في تركيب الكون حولنا من أزواج (الذكر والأنثى) ؛ النهار والليل، السماء والأرض، الشتاء والصيف، إلخ ...  كل تفصيلة في الطبيعة مكونة من أزواج لا تدرك قيمة أحدها إلا بوجود الآخر، كيف كنا سنعرف سكينة الليل لولا صخب النهار؟  إن تبادل الأدوار بين كل زوج يوّلد انسجاماً و يخلق تناغمًا متفردًا، وإبداعاً يُبصَر بالقلب .  يذكر شكسبير في إحدى سونيتاته : " لاحظ كيف يكون الوتر الواحد زوجًا عذبًا للوتر الآخر، يستهل أحدهما أنغامه تلو الآخر بالتبادل، أغنية بلا كلمات، تبدو لكثرتها أغنية واحدة، تقول لك في غنائها: إن الوحيد في الحياة لا وجود له . (2)       حين أتامل تصرفات الناس من حولي و ردود افعالهم، أجدها في أكثر الأحيان متشابهة، مكررة، ومحكومة بما يفعل الأغلبية، فمثلًا يجلس الناس جلسة غيبة، فيُدلي كل جالس بدلوه، قلّما تجد أحد ينسحب من هذه الجلسة، أو على الأقل يكتفي بالصمت ...

عن تجارة القضايا ..

         فرق كبير بين أن ( تغنّي قضية ) و أن ( تغنّي للقضية ) فالقضية في الأولى مفعول به لفعل أنت فاعله ، بينما الزيادة في الثانية بإضافة حرف الجر (اللام) أفادت التعليل لتصبح القضية اسماً مجروراً ، القضية مجرورة و بالضبط  هذا ما يحصل  .          للتوضيح أذكر على سبيل المثال كاركتير ناجي العلي الذي يظهر فيه ذو المؤخرة السمينة -الذي اعتدناه رمز القيادات العربية في رسوماته- و هو يكتب بخط معوّج على جدار مسطّر "من رأى منكم اعوجاجاً مني بدي ألعن اللي خلّفه" ، بالمقابل أذكر رسماً لقبة الصخرة و قد زيّنتها الألوان الباهرة و الخطوط المتقنة ، وأتساءل لو نزعنا فلسطينية ناجي العلي من رسمه  ماذا سيتبّقى ؟ الحقيقة القائلة بأن الأنظمة العربية قائمة على استبداد شعوبها. بينما لو نزعنا فلسطينية اللوحة الثانية ماذا بقي ؟ مجرد خطوط و ألوان - طبعًا أقدّر القيمة الفنية وما إلى ذلك و لكنني أتحدث في هذا المقام عن القيمة الأخلاقية-  و هنا يكمن الفرق ؛ الأول عبّر عن قضيته بريشته و واجهه فيها ذوي المؤخرات السمينة الحقيقي...