التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بدايةً بالعلاقات ونهايةَ بالاستعمار : التسّلط نذيرًا بخراب العمران

 

 نشرت هذه المقالة على موقع ساسة بوست في تموز 2018 ، وأقوم الآن بإعادة نشرها على مدوّنتي بعد حذف الموقع عن الانترنت.

       شكوى الكثيرين من اصحاب العلاقات الغرامية غير الناضجة والذين ينتهي بهم المطاف إلى انهاء العلاقة وغالباً ما يكررون عبارات من قبيل "لو بقينا اصدقاء" تستحق الوقوف عندها قليلاً.
فبالرجوع لعلاقة الصداقة فهي قائمة على أقران متشابهين كلاهما بلا سُلطة ، أما ما يُدعى الحب أو الزواج فهو -في مجتمعاتنا- يقوم حقيقة على فرد صاحب سلطة آمر ناهي وآخر مطيع إن جاز التعبير، وغالباً ما يتم تبرير ذلك بخزعبلات متوارثة  ليلاقي الخضوع أو القبول.

 

       التأمل في هذا يوضّح أن هذه العلاقات السلطوية بين الأفراد ما هي إلا انعكاس للعلاقة السلطوية الأبوية والذكورية الممارسة في الاسرة والسياسية الممارَسة في المجتمع ككل؛ كأزواج المعلم والطالب ، المدير والموظف ، الشرطي و المواطن، إلخ.. وكتعويض تنفيسي يبدأ كل من تعرّض للقهر ممارسته  على من يراه أدنى منه منزلة، وينتهي الأمر بالوصول  لحلقات كحلقات الاولمبياد قوامها المشترك التسلط المؤدي إلى القهر. الغريب في الأمر أنهم يدعون تسلّطهم مسؤولية! هذا الالتباس العظيم بين المفاهيم والذي يجري استخدامه كتبرير أخلاقي للعملية إن دّل فهو يدّل على جهل عميق بالحقوق المطلوبة و الواجبات المؤداة بين الأفراد، ومن ثم ينبأ بوجود تخاذل على مختلف الأصعدة.


        قديماً كنت أهزأ بدعوات حقوق المرأة و ردّي كان بأنه "مش لما يكون في حقوق انسان بالأول! " ، لكني تراجعت عن هذا الرأي عندما أدركت أن المرأة هي الحلقة الأضعف في المجتمعات المقهورة وهي أكثر من تتحمل تبعات القهر الممارَس.

هنا يأتي دور المؤسسات الاستعمارية الغربية مثل US AID لاستغلال هكذا قضايا، لتقف بجانب المرأة مدّعية ببرامجها نصرة حقوقها ولكن في الحقيقة هي تستغل هذا الضعف لزرع مشاريعها الاستعمارية في مثل هذه الفئة من المجتمع، وبذلك تضمن بسط المزيد من نفوذ دولتها على الشعوب المتخلفة.


      نصل إلى أن حل مشكلة المرأة أو المشكلة الأكبر في المجتمع (القهر أو التسلّط) لا يكون بالحلول السطحية من مطالبات بالحقوق فقط، وإنما بمعالجة عمق الأسباب بدلاً من إطلاق برامج تفادي النتيجة، ويتحقق ذلك بتغيير شكل العلاقة بين المرأة والرجل ، الأب و الابن ، و بالأهم السلطة السياسية والشعب، لتصبح علاقة صحيّة بين إنسان وإنسان آخر متساوٍ معه في الحقوق ومشترك في تأدية الواجبات وتحمّل المسؤولية؛ المسؤولية التي تجعل صاحبها محاسَبًا على أفعاله ومطالَبًا بما فعل.


     أخيرًا ، إن هذا الاشتباك العميق بين الحياة الاجتماعية والسياسية يجعلنا نكاد نلعن الرأي الدّاعي للحياد والقائل "لا دخل لنا بالسياسة" !

    في الفيديو أدناه مراجعة كرتونية لكتاب التخلّف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور لمصطفى حجازي، وهو تلخيص مبسطّ لكل ما ورد أعلاه.






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لأبي الحبيب... رسالة حُب، لا رِثاء

هذه ليست رسالة وداع، ولا رثاء لأب رحل... بل هي محاولة للحفاظ على وعد قطعته، أن يكون حبي له أكبر من حزني عليه. كتبتها لأبي -رضي الله عنه وأرضاه- في ذكرى ميلاده السادسة والخمسين، بكل ما في قلبي من امتنان. أتذكر يا أبي آخرَ يومٍ من بيت عزائك، حين وعدتُك أن يكون حبّي لك أكبر من حزني عليك؟ رغم أن عقلي كان غارقًا في صدمتَي مرضك ووفاتك، إلا أن الجزء منه الذي يُجيد مواجهة الحياة بأفكاره، بقي حاضرًا. لكن ذلك الوعد كان كلامَ مَن لم يَخبَر الفقد بعد؛ فكان الغياب أكبر مما احتملت، والامتحانُ أصعب مما ظننت. ومع ذلك، سأحاول في هذه الرسالة على الأقل أن أُنحي حزني جانبًا، لأتحدث عن حبّي لك فحسب. لا زلتُ، يا أبي، على عهدك. أفعل ما تحب، وأتجنّب ما تكره، بدرجةٍ أكبر من السابق حتى. كيف أشرح لك هذا؟ أتذكر حين كنتَ تغار وتطلب مني ألا أضع العطر خارجًا، فأقول لك: "حاضر، سأكتفي بتعطير الملابس في الخزانة"؟ الآن حتى هذا تركتُه، ويندر أن أفعله، لأُثبت لنفسي أن الغياب ما زادك إلا حضورًا. وعلى سيرة العطر؛ كنتُ مرّة أجرّب روائح العطور في السوق بدافع الفضول، لا الشراء. فعلِقت في ذهني رائحة طيلة ذلك اليوم. عد...

كلام الناس: السُلطة غير المرئية

    (1)      يقصد بالسُلطة هي تلك القدرة التي يمنحها الناس لجماعة منهم ليتولوا أمرهم ويقضوا بينهم، فجوهر السُلطة هو توّلي أمور الناس وقضاء حوائجهم ، أمّا مظهرها فهو جماعة يرجع إليها الأمر والفصل. لكن في حال انحراف هذه الجماعة وغياب الرقابة عنها يغيب الجوهر ويبقى المظهر، فتصبح القدرة وسيلة بيدها، ترعى أهوائها وتخدم مصالحها الشخصية.      حين أشاهد الناس يتملّقون مسؤولًا ما أتعجّب من سلوكهم، فنحن نقول "مسؤول ؛ أي أن معيار التقدير له   ينبغي أن يكون على قدر تحمّله للمسؤولية المنوطة به، وأتذّكر قول زياد رحباني في أغنيته: كل المصاري اللي مضبوبة، اللي ما بتنعد ولا بتنقاس،  أصلها من جياب الناس مسحوبة، ولازم ترجع لجياب الناس في هذا المثال انحلّ جوهر السلطة مع بقاء شكلها الخارجي، الشكل الذي يتملّقه الناس، المنصب الذي يحلمونه، إن لم يتغيّر هذا التصوّر الخاطئ عن ماهية السلطة لدى الناس ويستبدل بخير منه، فلا تغيير يُرجى منها، إلّا اللهم تغيير الأسماء التي تجيء وتذهب.   "هي دي هي الأصلية" كما يكمل رحباني .. ...

بين الأبيض والأسود ، ألوان..

  (1)        يقول الله عز و جل في كتابه " من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" سورة الذاريات ، لم تقتصر الآية على النوع البشري ، وإنما في كلمة "شيء" تعبير عن كل ما يدخل في تركيب الكون حولنا من أزواج (الذكر والأنثى) ؛ النهار والليل، السماء والأرض، الشتاء والصيف، إلخ ...  كل تفصيلة في الطبيعة مكونة من أزواج لا تدرك قيمة أحدها إلا بوجود الآخر، كيف كنا سنعرف سكينة الليل لولا صخب النهار؟  إن تبادل الأدوار بين كل زوج يوّلد انسجاماً و يخلق تناغمًا متفردًا، وإبداعاً يُبصَر بالقلب .  يذكر شكسبير في إحدى سونيتاته : " لاحظ كيف يكون الوتر الواحد زوجًا عذبًا للوتر الآخر، يستهل أحدهما أنغامه تلو الآخر بالتبادل، أغنية بلا كلمات، تبدو لكثرتها أغنية واحدة، تقول لك في غنائها: إن الوحيد في الحياة لا وجود له . (2)       حين أتامل تصرفات الناس من حولي و ردود افعالهم، أجدها في أكثر الأحيان متشابهة، مكررة، ومحكومة بما يفعل الأغلبية، فمثلًا يجلس الناس جلسة غيبة، فيُدلي كل جالس بدلوه، قلّما تجد أحد ينسحب من هذه الجلسة، أو على الأقل يكتفي بالصمت ...