التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لأبي الحبيب... رسالة حُب، لا رِثاء

هذه ليست رسالة وداع، ولا رثاء لأب رحل...
بل هي محاولة للحفاظ على وعد قطعته، أن يكون حبي له أكبر من حزني عليه.
كتبتها لأبي -رضي الله عنه وأرضاه- في ذكرى ميلاده السادسة والخمسين، بكل ما في قلبي من امتنان.


أتذكر يا أبي آخرَ يومٍ من بيت عزائك، حين وعدتُك أن يكون حبّي لك أكبر من حزني عليك؟
رغم أن عقلي كان غارقًا في صدمتَي مرضك ووفاتك، إلا أن الجزء منه الذي يُجيد مواجهة الحياة بأفكاره، بقي حاضرًا.
لكن ذلك الوعد كان كلامَ مَن لم يَخبَر الفقد بعد؛ فكان الغياب أكبر مما احتملت، والامتحانُ أصعب مما ظننت.
ومع ذلك، سأحاول في هذه الرسالة على الأقل أن أُنحي حزني جانبًا، لأتحدث عن حبّي لك فحسب.

لا زلتُ، يا أبي، على عهدك.
أفعل ما تحب، وأتجنّب ما تكره، بدرجةٍ أكبر من السابق حتى.
كيف أشرح لك هذا؟
أتذكر حين كنتَ تغار وتطلب مني ألا أضع العطر خارجًا، فأقول لك: "حاضر، سأكتفي بتعطير الملابس في الخزانة"؟
الآن حتى هذا تركتُه، ويندر أن أفعله، لأُثبت لنفسي أن الغياب ما زادك إلا حضورًا.
وعلى سيرة العطر؛ كنتُ مرّة أجرّب روائح العطور في السوق بدافع الفضول، لا الشراء.
فعلِقت في ذهني رائحة طيلة ذلك اليوم.
عدتُ في اليوم التالي واشتريتها.
وحين أخبرتُ أختي، قالت لي:" إنها رائحة عطر أبي عندما كنّا أطفالًا".
حينها فقط أدركتُ كيف للحوّاس أن تحفظ من نحب، وتبقى أوفى من الذاكرة.


أسعى، يا أبي، أن أقتدي بخصالك النبيلة، التي قلّما رأيتها في سواك:
بصمتك الحكيم، حين تكون أكثر من يعرف وأقل من يتكلم، فلا تتكلم إلا إن دعتك الضرورة.
بعقلك الرحيم، الذي يخلق الأعذار للناس ليرحمهم لا ليُدينهم؛
حين كنت أشكو لك فلانًا وفلانة، فكنت تردّ عليّ:
"يا أسيل، فلان عاش يتيمًا، وفلانة عقلها على قدّها."
بإخلاصك وحرصك على كتمان حسناتك، فلا أعرفها منك بل عنك،
إن صادفني من أحسنتَ إليه يومًا، فيُخبرني هو، ولم تخبرني أنت.
بقوّتك، حين يدير الآخرون ظهورهم لمشاكل بعضهم تذرّعًا بالحياد،
فتدخل أنت وتقول ما تراه حقًا، غير مكترثٍ بمن رضي عنك أو سخط.
بفطنتك ونظرتك للناس، التي تبنيها من مواقفهم لا من مظاهر زائفة، لا تهمّك ولا تخدعك.

أخبرك بشيء، يا أبي؟
إلى الآن، حين أتحدث عنك، لا أُتبع اسمك بجملة رحمه الله، بل أستبدلها بـ الله يرضى عنه ويرضيه.
لأن الأولى اعتراف بأنك صرتَ من الماضي، وأنت، يا أبي، لستَ ماضيًا ولنْ تكون.
وما زلت أستعمل الفعل المضارع لا الماضي حين أتكلّم عنك؛
أبي يفضّل اللون الأخضر، أبي يشرب قهوته دون سكر.
وأحرص أن أُبقي ذكرك حاضرًا في كل مجلس أجلسه،
فتكون مداخلاتي للتعبير عنك، لا عني.
فأقول: لو كان أبي هنا لقال كذا، ولو كان أبي في هذا الموقف لفعل كذا.

أحاول تعويض احتضانك وتقبيل جبينك و يديك، فأُقبّل وأحضن صوَرك، وكل أغراضك،
حتى شاهد قبرك أقبّله؛
لكنهم أخبروني أن هذا قد لا يجوز، فكففت عن ذلك.
وكلما زرت قبرك، منحني الله شعورًا غريبًا يدفعني للعودة إلى امتحان الحياة الدنيا بقوة،
لأُقدّم فيه أفضل ما لديّ، حتى أستريح بعدها بجوارك، مطمئنة.

أسعى للتعبير عن حبي لك بأفعالي، كما كنتَ تفعل أنت،
ولكني سأُبقيها بيني وبين الله، وسأحكيها لك حين نلتقي في الآخرة، بإذن الله.
وستقول لي حينها ممازحًا كعادتك:
"أسيل، يابا، إنتِ بتعرفيش تسكتي؟"
فأضحك وأرد عليك:
"بابا، أنا هادئة الطباع، اسأل كل من يعرفني،
ولكن بحضرتك، يا قلبي، أعود طفلة لا تكفّ عن الثرثرة."
وإلى أن يحين اللقاء:
بحبك يا بابا.

الأجساد من تتفارق يا أبي، أمّا الأرواح ففي عناقِ دائم.






تعليقات

  1. رضي الله عن والدكم وعنكم، وما كتبتم الا نصًا يأخذ اللب والعاطفة، ويسلب الشعور سكونه إلى حركة دائمة، فتصير الكلمات دافقةً تُقرُّ بالحكاية المقصوصة والمُجتزأة من سيرةٍ عطرة، لرجلٍ لم نعرفه إلا من النص اعلاه، فصار فيه موضوعًا للتناص والقول بالخير وصيغةً لاجتراح الادب والقول بالجاهرة من الصفات الحميدة والأبديات الفاصلة، فصار عندي موضوع نصكم هذا مُضافًا إلى كتاب الوافي بالوفيات من عطارتهم وحكمة زوالهم.

    ردحذف
    الردود
    1. أهلًا بش مهندس، سلامٌ عليكم .
      أشكر مروركم وكلماتكم الطيبة أعلاه، ولا زلت بانتظار ولادة عملكم الأدبي الأول إن شاء الله

      حذف
    2. أهلًا أهلًا، وعليكم سلامٌ.
      ولا زال العمل الأدبي المُنتظر قيد التدقيق والمراجعة في البال والخاطر.
      وتحتاج ولادته حثًّا أكبر وأوسع ومدار حديثٍ اطول وأنجب.
      فتعالوا.
      ولا زلت بانتظاركم تشجيعًا وسنادةً واسهابًا

      حذف
  2. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلام الناس: السُلطة غير المرئية

    (1)      يقصد بالسُلطة هي تلك القدرة التي يمنحها الناس لجماعة منهم ليتولوا أمرهم ويقضوا بينهم، فجوهر السُلطة هو توّلي أمور الناس وقضاء حوائجهم ، أمّا مظهرها فهو جماعة يرجع إليها الأمر والفصل. لكن في حال انحراف هذه الجماعة وغياب الرقابة عنها يغيب الجوهر ويبقى المظهر، فتصبح القدرة وسيلة بيدها، ترعى أهوائها وتخدم مصالحها الشخصية.      حين أشاهد الناس يتملّقون مسؤولًا ما أتعجّب من سلوكهم، فنحن نقول "مسؤول ؛ أي أن معيار التقدير له   ينبغي أن يكون على قدر تحمّله للمسؤولية المنوطة به، وأتذّكر قول زياد رحباني في أغنيته: كل المصاري اللي مضبوبة، اللي ما بتنعد ولا بتنقاس،  أصلها من جياب الناس مسحوبة، ولازم ترجع لجياب الناس في هذا المثال انحلّ جوهر السلطة مع بقاء شكلها الخارجي، الشكل الذي يتملّقه الناس، المنصب الذي يحلمونه، إن لم يتغيّر هذا التصوّر الخاطئ عن ماهية السلطة لدى الناس ويستبدل بخير منه، فلا تغيير يُرجى منها، إلّا اللهم تغيير الأسماء التي تجيء وتذهب.   "هي دي هي الأصلية" كما يكمل رحباني .. ...

بين الأبيض والأسود ، ألوان..

  (1)        يقول الله عز و جل في كتابه " من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" سورة الذاريات ، لم تقتصر الآية على النوع البشري ، وإنما في كلمة "شيء" تعبير عن كل ما يدخل في تركيب الكون حولنا من أزواج (الذكر والأنثى) ؛ النهار والليل، السماء والأرض، الشتاء والصيف، إلخ ...  كل تفصيلة في الطبيعة مكونة من أزواج لا تدرك قيمة أحدها إلا بوجود الآخر، كيف كنا سنعرف سكينة الليل لولا صخب النهار؟  إن تبادل الأدوار بين كل زوج يوّلد انسجاماً و يخلق تناغمًا متفردًا، وإبداعاً يُبصَر بالقلب .  يذكر شكسبير في إحدى سونيتاته : " لاحظ كيف يكون الوتر الواحد زوجًا عذبًا للوتر الآخر، يستهل أحدهما أنغامه تلو الآخر بالتبادل، أغنية بلا كلمات، تبدو لكثرتها أغنية واحدة، تقول لك في غنائها: إن الوحيد في الحياة لا وجود له . (2)       حين أتامل تصرفات الناس من حولي و ردود افعالهم، أجدها في أكثر الأحيان متشابهة، مكررة، ومحكومة بما يفعل الأغلبية، فمثلًا يجلس الناس جلسة غيبة، فيُدلي كل جالس بدلوه، قلّما تجد أحد ينسحب من هذه الجلسة، أو على الأقل يكتفي بالصمت ...