التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عن العزّة و الحياء ...

 قراءة سريعة في فن الغناء الأصيل ...



    من المتداول عن العرب قديمًا أنهم كانوا حريصين على إخفاء مشاعرهم لا سيّما فيما يتعلّق بالهوى، وكانوا يرون في الإفصاح عنه ضعفًا وهوانًا. فها هو الأصمعي يتجوّل في البادية وإذا به يرى صخرة مكتوب عليها :

أيا معشر العشاق بالله خبّروا
إذا حلّ عشق بالفتى كيف يصنع
فكتب الأصمعي بيتًا تحته يرد عليه :
يداري هواه ثم يكتم سره
ويخشع في كل الأمور ويخضع

فعاد في اليوم الذي يليه ليجد:

وكيف يداري والهوى قاتل الفتى
وفي كل يوم قلبه يتقطّع
فكتب الأصمعي:
إذا لم يجد صبرًا لكتمان سره
فليس له شيء سوى الموت ينفع

فجاء الأصمعي بعدها فوجد شابًا ميتًا بجانب صخرة وقد كتب عليها:

سمعنا أطعنا ثم متنا فبلّغوا
سلامي إلى من كان بالوصل يمنع
هنيئًا لأرباب النعيم نعيمهم
وللعاشق المسكين ما يتجرّع


هذه القصة توّضح حالة المكابرة التي كانت سائدة حينها عند العرب -ولا زالت- ، ونذكر أيضًا على سبيل الذكر لا الحصر قول المتنبي:

الحب ما منع الكلام الألسنا
و ألّذ شكوى عاشق ما أعلنا

وقال أيضًا:

وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه
وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتّقي

وقال أبو فراس الحمداني:

أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى مشتاق وعندي لوعة
لكن مثلي لا يذاع له سر


      بيد أن هذه الحالة قد وورثت حتى يومنا هذا وتحت مسمّى "عزة النفس" عند الرجال و " الحياء" عند النساء. وأنا أرى عزّة النفس مكتسبة أمّا الحياء فطبيعي؛ فالحياء لغة هو التوبة والحشمة ، أمّا اصطلاحًا تمنّع الأنثى عن  الذكور لتكون في ذلك مطلوبة لا طالبة ومستجيبة في ذلك لا مبادِرة.  




     نستشهد هنا بأغنية "حيّرت قلبي معاك" والتي من تأليف أحمد رامي وتلحين رياض السنباطي وأداء أم كلثوم، تقول الأغنية:

حيّرت قلبي معاك وأنا أداري و أخبّي
قل لي أعمل ايه ويّاك ولا أعمل ايه ويا قلبي
بدي أشكي لك من نار حبي .. بدي أحكي لك ع اللي بقلبي
وأقولك ع اللي سهرني وأقولك ع اللي بكّاني
و أصورلك ضنى روحي و عزّة نفسي مانعاني

تتكرر هذه القفلة بعد نهاية كل مقطع من الأغنية والمؤلفة من ثلاثة مقاطع، تطلب المحبوبة  من محبوبها في المقطع الأول أن ينظر في عينيها ليعرف ما كتمت من الأشواق، تقول الأغنية:

يا قاسي بص في عينيا وشوف ايه انكتب فيها
دي نظرة شوق وحنيّة و دي دمعة بداريها
و ده خيال بين الأجفان فضل معاي الليل كله
سهرني بين فكر وأشجان وفات لي جوه العين ظلّه
 وبين شوقي وحرماني وحيرتي ويا كتماني

في المقطع الذي يليه تستهجن المحبوبة عليه عدم اكتراثه و درايته بما يدور في وجدانها فتقول:

يا ما ليالي أنا وخيالي أفضل أصبّر روحي بكلمة يوم قلتها لي
وأبات أفكّر في اللي جرى لك واللي جرى لي
وأقول ما شافشِ الحيرة عليّ لما بسلّم
ولا شافشِ يوم الشوق في عيني راح يتكلم
و أرجع أسامحك تاني وأحن لك وألقاني

بعد ذلك تصرّ المحبوبة على مداراة هواها إلى أن يتبيّن له دون إفصاحها لتقول:

خاصمتك بيني وبين روحي وصالحتك وخاصمتك تاني
وأقول أبعد يصعب على روحي تطاوعني ليزيد حرماني
حأفضل أحبك من غير ما أقولك إيه اللي حيّر أفكاري
لحد ما قلبك يوم يدّلك على هواي المداري
ولما يرحمني قلبك ويبان لعيني هواك
وتنادي ع اللي انشغل بك و روحي تسمع نداك

توّضح المحبوبة الحالة الوحيدة التي يمكنها فيها الإفصاح عن مشاعرها في المقطع أعلاه، وهو أن يدري به المحبوب ويناديها للحديث عنه؛ فيتغّير النفي إلى الايجاب في القفلة الأخيرة لتقول:

ارضى اشكي لك من نار حبي
وابقى احكي لك ع اللي في قلبي




        وفي القصيدة المغنّاة "أكرهها" من تأليف نزار قباني وتلحين وأداء كاظم الساهر ، توضيح لحالة أخرى من الحياء؛ وهي تظاهر المحبوبة بعكس ما تضمر من مشاعر، تقول الأغنية على لسان المحبوب:
أحب هذا اللؤم في عينها
و زورها إن زوّرت قولها

ثم يتابع:

عين كعين الذئب محتالة
طافت أكاذيب الهوى حولها
قد سكن الجنون أحداقها
وأطفأت ثورتها عقلها

وفي المقطع الأخير  تذكير بحالة المحبوبة المناقضة لحالتها في المقطع الأول ...






   ايضًا، في أغنية "مشاغبة" من كلمات الشاعر عبد الرفيع الجواهري وتلحين الموسيقي حسن القدميري وأداء فاتن هلال بك تشابه بما ورد أعلاه، فتقول المحبوبة:

من قال إنّي تائبة
في الحب غير راغبة
قلبي يدّق باسمه
لكنني مشاغبة

ثم تعترف بما يجري في الحقيقة فتقول:

أحبه أحبه
أحب أن أعذّب قلبه
وأن أقول لا لا
وأن أكون كاذبة 

تختتم الأغنية وكّأنها تقدّم إجابة على "لم كل هذا؟" فتقول:

أريد أن يحبني
مطلوبة لا طالبة

       تتشابه هذه النهاية مع ما قاله هيرمان هيسه على لسان أم دميان لمّا قالت: " أنا لن أجعل من نفسي منحة بل يجب أن أُكْتسب".

        نهايةً، نصل إلى أن مداراة الهوى عند الرجال صفة متوارثة عن العرب في قدمهم خوفًا على عزّة أنفسهم، أما عند المرأة فهو حياء منها؛ حالة تنتظر مبادرة الرجل ، وحالة تتصرف بعكس ما تضمر، والحالة الأخيرة لتكون مطلوبة لا طالبة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لأبي الحبيب... رسالة حُب، لا رِثاء

هذه ليست رسالة وداع، ولا رثاء لأب رحل... بل هي محاولة للحفاظ على وعد قطعته، أن يكون حبي له أكبر من حزني عليه. كتبتها لأبي -رضي الله عنه وأرضاه- في ذكرى ميلاده السادسة والخمسين، بكل ما في قلبي من امتنان. أتذكر يا أبي آخرَ يومٍ من بيت عزائك، حين وعدتُك أن يكون حبّي لك أكبر من حزني عليك؟ رغم أن عقلي كان غارقًا في صدمتَي مرضك ووفاتك، إلا أن الجزء منه الذي يُجيد مواجهة الحياة بأفكاره، بقي حاضرًا. لكن ذلك الوعد كان كلامَ مَن لم يَخبَر الفقد بعد؛ فكان الغياب أكبر مما احتملت، والامتحانُ أصعب مما ظننت. ومع ذلك، سأحاول في هذه الرسالة على الأقل أن أُنحي حزني جانبًا، لأتحدث عن حبّي لك فحسب. لا زلتُ، يا أبي، على عهدك. أفعل ما تحب، وأتجنّب ما تكره، بدرجةٍ أكبر من السابق حتى. كيف أشرح لك هذا؟ أتذكر حين كنتَ تغار وتطلب مني ألا أضع العطر خارجًا، فأقول لك: "حاضر، سأكتفي بتعطير الملابس في الخزانة"؟ الآن حتى هذا تركتُه، ويندر أن أفعله، لأُثبت لنفسي أن الغياب ما زادك إلا حضورًا. وعلى سيرة العطر؛ كنتُ مرّة أجرّب روائح العطور في السوق بدافع الفضول، لا الشراء. فعلِقت في ذهني رائحة طيلة ذلك اليوم. عد...

كلام الناس: السُلطة غير المرئية

    (1)      يقصد بالسُلطة هي تلك القدرة التي يمنحها الناس لجماعة منهم ليتولوا أمرهم ويقضوا بينهم، فجوهر السُلطة هو توّلي أمور الناس وقضاء حوائجهم ، أمّا مظهرها فهو جماعة يرجع إليها الأمر والفصل. لكن في حال انحراف هذه الجماعة وغياب الرقابة عنها يغيب الجوهر ويبقى المظهر، فتصبح القدرة وسيلة بيدها، ترعى أهوائها وتخدم مصالحها الشخصية.      حين أشاهد الناس يتملّقون مسؤولًا ما أتعجّب من سلوكهم، فنحن نقول "مسؤول ؛ أي أن معيار التقدير له   ينبغي أن يكون على قدر تحمّله للمسؤولية المنوطة به، وأتذّكر قول زياد رحباني في أغنيته: كل المصاري اللي مضبوبة، اللي ما بتنعد ولا بتنقاس،  أصلها من جياب الناس مسحوبة، ولازم ترجع لجياب الناس في هذا المثال انحلّ جوهر السلطة مع بقاء شكلها الخارجي، الشكل الذي يتملّقه الناس، المنصب الذي يحلمونه، إن لم يتغيّر هذا التصوّر الخاطئ عن ماهية السلطة لدى الناس ويستبدل بخير منه، فلا تغيير يُرجى منها، إلّا اللهم تغيير الأسماء التي تجيء وتذهب.   "هي دي هي الأصلية" كما يكمل رحباني .. ...

بين الأبيض والأسود ، ألوان..

  (1)        يقول الله عز و جل في كتابه " من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" سورة الذاريات ، لم تقتصر الآية على النوع البشري ، وإنما في كلمة "شيء" تعبير عن كل ما يدخل في تركيب الكون حولنا من أزواج (الذكر والأنثى) ؛ النهار والليل، السماء والأرض، الشتاء والصيف، إلخ ...  كل تفصيلة في الطبيعة مكونة من أزواج لا تدرك قيمة أحدها إلا بوجود الآخر، كيف كنا سنعرف سكينة الليل لولا صخب النهار؟  إن تبادل الأدوار بين كل زوج يوّلد انسجاماً و يخلق تناغمًا متفردًا، وإبداعاً يُبصَر بالقلب .  يذكر شكسبير في إحدى سونيتاته : " لاحظ كيف يكون الوتر الواحد زوجًا عذبًا للوتر الآخر، يستهل أحدهما أنغامه تلو الآخر بالتبادل، أغنية بلا كلمات، تبدو لكثرتها أغنية واحدة، تقول لك في غنائها: إن الوحيد في الحياة لا وجود له . (2)       حين أتامل تصرفات الناس من حولي و ردود افعالهم، أجدها في أكثر الأحيان متشابهة، مكررة، ومحكومة بما يفعل الأغلبية، فمثلًا يجلس الناس جلسة غيبة، فيُدلي كل جالس بدلوه، قلّما تجد أحد ينسحب من هذه الجلسة، أو على الأقل يكتفي بالصمت ...